قراءة جديدة في الحكم العطائية السلوك مع الله: رحلة مع حكم ابن عطاء الله في ضوء القرآن والسنة والسنن الإلهي قراءة جديدة في الحكم العطائية
السلوك مع الله: رحلة مع حكم ابن عطاء الله في ضوء القرآن والسنة والسنن الإلهية
عرض: محمد أبوزهرة
التصوف وفق الرؤية الإسلامية ليست دين أو مذهب إنما هي منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي إلى معرفته سبحانه والعلم به، والتحقق بمقام الإحسان (وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وذلك عن طريق الاجتهاد في العبادات واجتناب المنهيات، وتربية النفس وتطهير القلب من الأخلاق السيئة، وتحليته بالأخلاق الحسنة. ويستمد هذا المنهج أصوله وفروعه من القرآن والسنة النبوية واجتهاد العلماء فيما لم يرد فيه نص.
ويعد ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه أحد فرسان الكلام البليغ الجميل الذي له أنوار، وله إشراق، وله عمق، وفيه ثراء، ينطبق هذا كله على مأثوراته وكلماته وسبحاته الروحية المتمثلة في تلك الاستغاثات والمناجاة والشكاوى التي يتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى، تلك المشهورة بالحكم العطائية.
فكانت هذه الحكم العطائية ولا تزال المعين العذب الذي يغترف منه كل من ينشدون بلوغ مراتب الطمأنينة القلبية والراحة النفسية والسعادة الحقيقية على مختلف مشاربهم ومذاهبهم.
ومن أحدث الكتب التي نهلت من هذا النبع الصافي المتجدد كتاب للدكتور جاسر عودة بعنوان (السلوك مع الله: رحلة مع حكم ابن عطاء الله -رضي الله عنه- في ضوء القرآن والسنة والسنن الإلهية) صادر عن (دار الهداية - 2010).
قصة الكتاب
والكتاب عبارة عن رحلة، تلك الرحلة عبارة عن محطات، والمحطات تكون للتزود بالزاد، والزاد هنا هي حكم عطائية اختارها المؤلف بعناية لتكون بمثابة مراحل ودرجات يرتقى فيها المريد الذي ينشد الوصول للغاية العظمى.
والإمام ابن عطاء الله، دليل المؤلف والقارئ في هذه الرحلة، اسمه على مسمى! فقد أعطاه الله من العلم والحكمة القدر الكبير. {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. فهو فقيه، ومحدِّث، ونحوى، وله باع في علوم شرعية ولغوية مختلفة، ليس فقط في علم التصوف. ذلك لأنه لابد أن ينضبط هذا العلم –علم السلوك- بالفقه والحديث وغيرهما من علوم الشريعة، ولا ينحرف عنهما. فلا ينبغي لأهل السلوك أن يُحِلُّوا حرامًا ولا أن يُحَرِّموا حلالاً، وهذا العالم فقيه بالحلال والحرام، معروف بإمامته في الفقه المالكي، وشهد له مشايخه وتلاميذه ومعاصروه بالقدرة على الإفتاء والدعوة في (المذهبين)، أي مذهب أهل السلوك ومذهب أهل الفقه، وله مؤلفات كثيرة معروفة، وناظر شيخ الإسلام ابن تيمية –وكان من معاصريه- في بعض المسائل. وقد عاش ابن عطاء الله في القرن السابع الهجري في الإسكندرية المصرية، ومات في بدايات القرن الثامن الهجري (709 هـ)، رحمه الله ورضي عنه.
فهي "رحلة مع الله وإلى الله"، رغم أنه قريب، سبحانه وتعالى أو بتعبير حكمة من الحكم التي تم تناولها في الكتاب: (لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك، ولا قطيعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك). فالله قريب ولكنّ البعد منّا نحن ونحتاج أن نتدارس كيف نتغلب على هذا البعد.
لكن من سلك هذا الطريق يعلم يقينا أنه "ليس للرحلة إلى الله نهاية! وإنما هو طريق دائري، كلما ظننت أنك في نهايته، دار بك حتى تعود إلى ما بدأت به، وكأننا نطوف حول الكعبة، والعود أحمد وأعلى وأزكى إن شاء الله. وهذه الـ (دورات) من سنن الله تعالى في خلقه كله."
وتبدأ الرحلة بالسلوك إلى الله من خلال التوبة والرجاء والإخلاص والتوكل والتفكر وتخليص النفس من عيوبها، وتنتهي بنا إلى مقامات الخشوع والرضي والإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
الغاية من الرحلة
وفي المقدمة يأخذ المؤلف بأيدينا ويرشدنا إلى الغاية لكي نعقد النية ونصحح العزم فيقول : فالمقصود من الكتاب: دارسة بعضا من قواعد السلوك والأخلاق .... أما السلوك والخلق المقصود هنا فهو ليس مع الناس –رغم أهميته- وإنما السلوك هنا يعني السلوك مع الله سبحانه وتعالى، بل والسلوك إلى الله سبحانه وتعالى، والأخلاق هنا تعني الأخلاق مع الله عز وجل، أي تخلق العبد بما يليق بكونه عبداً لله تعالى، أي بما يليق بصفات الله وأسمائه الحسنى. وهو جانب على قدر عال من الأهمية في الإسلام، وفي شريعة الإسلام، ننساه كثيرًا ولا نوفيه حقه، ونحتاج إلى أن نذكر أنفسنا به.
ومقام الحديث هنا ليس عن شعائر الإسلام ولا شرائع الإسلام، وإنما عن الكيفية التى نقوم بها بهذه الشعائر والشرائع، والآداب المطلوبة لذلك. أي: كيف نتعامل مع الله عز وجل بأدب؟ وكيف نتوب بصدق؟ وكيف نتوكل بحق؟ وكيف نفوض الأمور إليه بإخلاص؟ وكيف نخشع؟ وكيف نذكر؟ وكيف نتفكر؟ وكيف نرضى؟ وكيف نتواضع؟ وكيف يمكن للعبد الفقير الضعيف المذنب من أمثالي أن يقترب من الرحمن سبحانه وتعالى؟ وأن يتزكى؟ {قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها}.
التزكية علم
علم التزكية هو من علوم الإسلام الأصيلة قد يطلق عليه بعض الناس علم التصوف، أو يطلق عليه البعض مصطلحات أخرى، مثل علم الخشوع، أو علم السلوك، أو علم الربانية، أو علم القلوب، أو علوم الباطن. لكن في نهاية المطاف المصطلحات لا تهم هنا، وإنما المهم ما وراء المصطلحات من معاني.
لكن، لماذا نحتاج إلى علم مستقل للتزكية؟ أو ما هو معروف بعلم التصوف؟ ربما يطرح البعض هذا التساؤل ممن لا يجدون أهمية لهذا النوع من العلوم: والجواب أن العلم -أي علم- يتطور بحسب حاجة الناس إليه، حتى العلوم الشرعية. فحين بدأ الإسلام لم يكن هناك في العلوم ما يسمى بعلم التفسير، ولا علم الفقه بالمعنى المعروف، ولا علم الحديث، ولا علم الرجال، ولا علم الأصول، ولا علم الدعوة، ولا علم الكلام. وإنما الذي حدث أن الناس قد احتاجوا إلى إبتداع وتقسيم وتصنيف هذه العلوم لكي يتعلموا أولاً ويعلموا ثانياً. وعلم السلوك، أو علم التصوف، أو علم التزكية، سَمِّه ما شئت، هو علم من علوم الإسلام، لم يكن معروفًا بهذا الاسم في بداية الإسلام، كغيره من العلوم، ثم تطوَّر هذا العلم كما تطورت العلوم الإسلامية. نعم، انحرف به أناس كما انحرف أناس بالفقه، وانحرف أناس بعلم الكلام، وأناس بالتفسير، وانحرف بعض الأصوليين بأفكار، ولكل علم منتسبون إليه يسيئون استغلاله بشكل أو بآخر، لكن الانحراف بالعلم لا ينفى العلم نفسه ولا ضرورته للتعليم وللتعلم.
وهدف هذا العلم هو تزكية النفس حتى ترتقي في مراتب المعرفة بالله ومنازل العبادة لله. ولكن، ممن نأخذ هذا العلم؟ نأخذه ممن جمع بين علوم الظاهر والباطن –كما يقول أهل التصوف-، أى بين العلوم الشرعية كلها، لأن هذا العلم أيضًا هو من علوم الشريعة وينبغي أن يفهم في إطارها ولا يتناقض معها.
ولا ينبغي أن يصدنا عن هذا العلم انحراف بعض الناس به، أو غفلة بعض الناس من المنتسبين له عن قضايا العصر، أو عن قضايا الإسلام، أو قعودهم عن العمل، أو تبنيهم لفهم خاطئ مثلًا للتوكل حتى يصبح تواكلاً، أو فهم خاطئ للرجاء في الله سبحانه وتعالى حتى يصبح أمناً، أو فهم خاطئ للخوف من الله سبحانه وتعالى حتى يصبح قنوطاً، أو غير ذلك من الأفهام التي تنحرف وتتطرف ولا تعدل ولا تزن بالقسطاس المستقيم – لا ينبغي أن يصدنا ذلك، وإنما ينبغي أن نأخذ هذا العلم بميزان من العدل والقسطاس والتوسط.
وفي هذا الإطار يطرح الكتاب قضية هامة وهي التفريق بين الشريعة بالفقه: الشريعة لا تساوي الفقه، لأن الفقه جزء من الشريعة، والشريعة مجالها أوسع. الشريعة تشمل السلوك مع الله، وهو عنصر هام، وتشمل أيضا العلوم الأخرى التي تتعلق بدين الله ووحيه المنزل بشكل أو بآخر.
منهج المؤلف في تناول الحكمة
أما المنهج الذي اتبعه مؤلف الكتاب في تناول كل حكمة فيبدأ بتوضيح المعاني اللغوية للكلمات الصعبة أو غير الشائعة ثم إثارة بعض الأسئلة حول معنى الحكمة والإجابة عليها عن طريق الشرح بلغة سهلة في سياق المرحلة أو (المحطة) في الرحلة. بعد ذلك يتم التأصيل والتدليل على كل معنى جديد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد عمل الكاتب على ربط هذه الحكم البليغة المعاني بأصول أخرى عقلية ونقلية اصطلح على تسميتها بـ (السنن الإلهية)، وهي تلك القواعد النافذة المطردة التي جعلها الله قوانين تنتظم بها حركة الكون، كوحدة الأصل، والتنوع، والتوازن، والزوجية، وما يتولد عنها من سنن أخرى تقوم عليها حياة الإنسان كفرد ومجتمع، كالعدل، والابتلاء، والتدافع، والتداول، والجزاء، وما إلى ذلك مما يرد مشروحاً في بعض ثنايا الكتاب – لعل في ذلك مزيد حكمة وجميل معنى.
وفي النهاية
نشير إلى أن (الحكم العطائية) لها عشرات الشروح قديمة ومعاصرة في صور مختلفة، منها شروح ابن عباد والشيخ زروق وابن عجيبة، ومن المعاصرين شروح الشيخ محمد الغزالي والأستاذ سعيد حوى والشيخ الدكتور على جمعة.
لكن هذا الكتاب مختلف في طريقته وأسلوبه ومنهجه، فهو بسيط عذب، ما يجعله أقرب إلى خواطر حياتية يلمسها ويحسها كل منا، ومحاولة ربط حياتنا وصيرورتها بحياة الكون والكائنات من حولنا، وهو بمثابة إشارات – أو لوحات إرشادية – تدلنا على الطريق في حياتنا الدنيوية لنكتسب فن العيش فيها وتمهيدها لتصلح طريقا لنا للحياة الأبدية.
ويختم المؤلف الكتاب بمقولة جميلة تلخص وتوجز الهدف والوسيلة معا فيقول: وهذا، وإن إصلاح أخلاقنا مع الله سبحانه وتعالى، سوف يصلح الكثير والكثير من أخلاقنا مع الناس، فإذا تخلصنا من الطمع وأحسنّا الرجاء والتوكل والخوف من الله تعالى وحده، فستنصلح أخلاقنا مع الناس، وهذا ما نحتاجه. نحتاج أن نعمر ما بيننا وبين الله، حتى يصلح الله حال أمتنا كلها، وهذه سنة الله تعالى في تغيير الأحوال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.