الربانية واقسامها والمقصود بها
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}[المائدة: 44].
• {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ}: المقصود التوراة وما في حكمها (القرآن بالنسبة إلينا)؛ والخصيصة هي الهدى والنور اللذان يهدي الله بهما إليه من يشاء من عباده. والهدى: هداية عامة، أولى مراتبها الخطاب الذي يعقله من الوحي كل عقل سليم له دراية باللغة العربية؛ وأما النور، فهو هداية خاصة يطلع الله به من يشاء على باطن القرآن وحقائقه.
• {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}: أي يحكم بأحكامها الظاهرة وأحكامها الباطنة. الأحكام الظاهرة متعلقة بالأبدان والمعاملات الحسيّة، والأحكام الباطنة تتعلق بالمعاملات الغيبية والأحكام الأصلية (مقتضى الحقائق). هذه الأحكام، يحكم بها النبيون بالأصالة، لأنهم أهل الهدى والنور في أعلى مراتبهما، الذين أسلموا لله إسلاما ذاتيا، فلا بقية لديهم من أنفسهم عليهم السلام، وإن اختلفت مراتبهم في القرب.
• {لِلَّذِينَ هَادُوا}: بالمعنى الخاص: هم اليهود؛ وبالمعنى العام: الذي اتبعوا الأنبياء عليهم السلام، ولم يتبعوا الفلاسفة. فهؤلاء يأخذون أحكام الوحي من الأنبياء، بحسب مرتبة كلّ متّبِع من طبقة أهل الهدى وأهل النور.
• {وَالرَّبَّانِيُّونَ}: "الربانيون" معطوف على "النبيون". وهؤلاء هم خلفاء الأنبياء وورثتهم. يقومون بوظيفة الأنبياء (بالنيابة لا بالأصالة) في هداية الأتباع وتربيتهم. وهم المتحققون بما ورثوه من النبوة ذوقا، لا علما مجردا وحسب. وهم عندنا شيوخ التربية والسلوك، الذين يُلحقون العباد بمرتبة الأخذ عن النبوة؛ حتى لا يكون فرق بين الأولين والآخرين فيه.
• {وَالْأَحْبَارُ}: الأحبار هم علماء الدين المعروفون، الذين يبينون الأحكام الظاهرة، ويحرسون حدود الشريعة.
• {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}: الكلام عائد على النبيين والربانين والأحبار. ومعناه أن هداية هؤلاء للعباد تستند إلى ما استُودع فيهم من علم بكتاب الله، كلٌّ على قدره. والكتاب يراد منه ما ظهر في الوجود من آثار الصفات الدالة على الذات. ومراتب العلم هنا تتراوح بين العلم اللدني والعلم العقلي.
• {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}: الشهادة بمعنى الإقرار العلمي الذي هو من مرتبة الأحبار أهل الهدى، وبمعنى الشهود الذي هو من مرتبة الأنبياء والربانيين أهل النور.
ويقول الله أيضا: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران: 79].
• {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}: معناه ما كان لأحد من البشر ممن آتاه الله العلم بذاته وصفاته وأفعاله، وآتاه العلم بالأحكام في كل مرتبة بما يليق بها، وآتاه النبوة التي هي التلقي عن الله والإخبار عنه سبحانه، إما جميعا وإما بعضا، نعني إما من مرتبة النبوة وإما من مرتبة الوراثة.
• {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}: أي إن العلم الذي آتاه الله مما ذكر الله سابقا، يأبى عليه أن تظهر منه صفات الربوبية بنفسه كما تظهر من أهل الغفلة؛ وإنما إذا ظهرت منه تلك الصفات، فإنه يكون فيها بالله لا بنفسه. لا يمكن للعلم الذي أوتيَه أن يعطيه غير هذا.
• {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}: أي يقول النبي أو الوارث للنبي، كونوا ربانيين. أي كونوا متعلقين بالله فينا لا بحقائقنا العدمية التي بها تفرقون بيننا.
• {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ}: وفي قراءة: بما كنتم تَعْلَمُونَ. أي بما دلكم عليه الكتاب الذي تعلَمونه وتعلِّمونه. فهو برهانكم ودليلكم على ما تعرفون وتُنكرون.
• {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}: أي تتعلّمون وإن كنتم لم تبلغوا مرتبة العلماء. هذا يعني أن أسس الربانية ينبغي أن تكون واضحة لكل المؤمنين، علماء ومتعلمين.
نستخلص من هذا كله، أن الربانية ربانيتان:
ــ ربانية تحقق: فهذه للأنبياء عليهم السلام ولوارثيهم.
ــ ربانية تعلق: وهذه ينبغي أن تكون لكل عالم ومتعلم للدين.
هذا، حتى لا ينحرف الطريق بالسالكين، ويبقَوْا على أصل ما يقتضيه الهدى والنور. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.