يبين الرفاعي الكبير قدس سره، أن أول مراتب القاصدين التقوى وأساسها مخافة الله وهي رأس الحكمة ثم حسن التبعية لسيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولا يكون ذلك إلا بإخلاص الوجهة والعمل بحديث إنما (الإعمال بالنيات ) ..
وقد عبر رضي الله عنه عن إخلاص العمل بالحديث الشريف :
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا أَجْرَ لَه، فَأَعْظَمَ ذَلِكَ النَّاسُ وَقَالُوا لِلرَّجُلِ : عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَلَّكَ لَمْ تُفَهِّمْهُ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، فَقَالَ : لَا أَجْرَ لَهُ، فَقَالُوا لِلرَّجُلِ : عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ : الثَّالِثَةَ، فَقَالَ لَهُ : لَا أَجْرَ لَهُ )، رواه أبو داود في "سننه" [ج2/ص: 17/ر:2516]، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" [ر:2516]، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج2/ص: 564/ر:7840]، وصححه الشيخ شاكر في "مسند أحمد" [ج16/ص: 322]، ورواه البيهقي في "الشعب" [ج5/ص: 337/ر:6840]، وأبو نعيم في "الحلية" [ج10/ص: 171/ر:15283]، وصححه ابن حبان في "الثقات" [ج10/ص:494/ر:4637]، والحاكم في "المستدرك" [ج2/صك 94/ر:2436]، وخلاصة حكمه : [صحيح] ..
ومما تقدم نستنتج أن نتائج الأعمال تحسن بصدق النية، وسبيل المتقين تنزيه الله تعالى، بظاهر ما تشابه في القرآن والسنة وتفويض معناه المراد إلى الحق تعالى وتقدس، وبهذا سلامة الدين ..
سأل بعض العارفين عن الخالق تقدست أسماؤه فقال : إن سألت عن ذاته فليس كمثله شيء وإن سألت عن صفاته فهو أحد صمد لم يلد ولو يولد ولم يكن له كفوا أحد، وإن سالت عن أسمه فهو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، وإن سألت عن فعله فكل يوم هو في شأن ..
وقد جمع ذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بقوله : ( من انتهض لمعرفة مدبره، إلى موجود ينتهي إليه فكره، فهو مشبه، إن اطمأن إلى العدم الصرف فهو معطل، وإن اطمأن واعترف بالعجز عن إدراكه، فهو موحد )، مقتبس من "البرهان المؤيد" للرفاعي الكبير [ص: 6-7] ..
ومما تقدم نلاحظ مدى أهمية مفهوم الإخلاص في نهج الرفاعي الكبير، وتفويض حقائق الصفات الإلهية الخبرية، والإقرار بالعجز المطلق عن إدراك حقيقة الذات العلية ..
وهو دلالة على ما تمييز به هذا الإمام الكبير من شدة الورع وعلو التقوى، فهنيئا لمن أصابه من فضل هذا الرجل المهدي شيء ..
بسم الله الرحمن الرحيم : (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )[الأنعام : 90] ..
من خلال ما تقدم نجد الرفاعي الكبير طيب الله ثراه، يبدأ تربية مريديه تربية إيمانية علمية وليس تربية ولاية، ومعلوم أن الصفة الغالبة عليه رضي الله عنه أنه من الأولياء وليس من العارفين، والحق أنه إمام مهدي جامع، جمع بين سمة العلماء العارفين وسمة الأولياء الزاهدين، فهو عالم رباني ..
فتوجيهه رضي الله عنه للعمل بالإخلاص مناط بالولاية ..
ويقول العارف بالله سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى : ( ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص ، لأنه ليس لها فيه نصيب )..
ثم توجيهه للخشية علم، فسمة العالم الخشية كما في الأثر : "كفى بالمرء علما أن يخشى الله"، وفي كتاب الله إشارات واضحة أن الوجل وهو الخوف الشديد المسيطر على القلب والخشية وخبت القلوب هي صفات العلماء، لكن الإمام أحمد الرفاعي قدس سره، أراد أن يوطد في قلوب مريديه الإخلاص حتى لا يقعوا بآفات العلماء، التي يعاني منها اليوم أكثر العلماء ..
يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
الناس هلكى إلا العالمون ، والعالمون هلكى إلا العاملون ، والعاملون هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم )، أورده السيوطي في "النكت" ... وورد في "اقتضاء العلم " ، في رواية التستري مرسلاً ..
عن حذيفة بن اليمان من الصحابة والحسن البصري من التابعين رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله تعالى : (الإِخْلاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي أَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُ مِنْ عِبَادِي )، رواه العراقي مرفوعا في "تخريج الإحياء" [ج5/ص: 104]، وابن حجر في "فتح الباري" [ج4/ص: 131]، والإمام القشيري في "رسالته" [ج1/ص: 114/ر:45] ..
ثم دفع رضي الله عنه مريديه بشكل وقائي أو استباقي لتفويض المتشابهات بحقيقة معناها لله عز وجل، وهذا أسلم للقلب وأوثق للإيمان ..
يقول إمام الطائفتين "أبو القاسم الجنيد" رحمه الله تعالى : ( أقل ما في الكلام [علم الكلام] سقوط هيبة الرب جل جلاله من القلب، والقلب إذا عري من الهيبة عري من الإيمان )، ورد في "سير الأعلام النبلاء" للذهبي [ج14/ ص: 68] ..
فكان الحق الأسلم عند الإمام الرفاعي الكبير رحمه الله تعالى، ما قاله الصديق الأكبر رضي الله عنه وأرضاه : (العجز عن درك الإدراك إدراك، والبحث في كنه ذات الله إشراك )، ذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" [ج2/ص: 216]، والسيوطي في "تاريخ الخلفاء"، وفي "شرح سنن النسائي" [ج1/ص: 103]، والزركشي في "تشنيف المسامع" [ج3/ص:80] ..
نعود الآن إلى البرهان المؤيد للرفاعي الكبير، فنجد العارف الرباني الرفاعي الكبير قدس سره، فاء إلى فتنة الكلام التي نحن نعاني منها اليوم حول تفويض وتأويل و تجسيم الصفات الإلهية الخبرية كصفة الاستواء وما يشبه الجوارح كالعين واليد والأصابع وغيره ..
لذلك أكد على التنزيه والتفويض لهذه الصفات الخبرية، فقال : ( طهروا عقائدكم من تفسير الاستواء في حقه تعالى بالاستقرار، كاستواء الأجسام على الأجسام المستلزم للحلول )، ورد في "البرهان المؤيد" للرفاعي [ص: 6] ..
ثم عاد ونفى عن الله الحد المكاني والحيز والجهة، فقال رضي الله عنه : ( إياكم والقول بالفوقية والسفلية، والمكان واليد والعين والجارحة، والنزول والإتيان والانتقال، فإن كل ما جاء بالكتاب والسنة، مما يدل ظاهره على ما ذكر، فقد جاء في الكتاب والسنة مثله مما يؤيد المقصود )، ورد في ذات المصدر والصفحة ..
وهنا يؤيد رضي الله عنه التأويل الأصولي برد حقيقة المتشابهات لمحكم التنزيل والسنة، وفق قاعدة السادة الأشاعرة الأصوليين : ( درء الآيات المتشابهات بردها للمحكمات )..
بسم الله الرحمن الرحيم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [النساء : 59] ..
ثم عاد رضي الله عنه لتقديم التفويض على التأويل، فاستشهد بما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى حيث يقول : ( كل ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه في كتابهفتفسيره قراءته والسكوت عليه ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل ورسلهوسأل رجلمالك بن أنسعن قوله تعالى: ( الرحمن على العرشاستوى )، كيف استوى فقالالاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراكإلا ضالا وأمر به أن يخرج من المجلس)، ورد في "حاشية السندي" لابن ماجه [ح1/ص: 88] ..
ثم استشهد رضي الله عنه بآراء فقهاء المذاهب :
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : (آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل.. واتهمت نفسي في الإدراك. وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك )، ورد في "حل الرموز" للعز بن عبد السلام ..
وقد نقل الرفاعي الكبير أيضا، ما قاله الإمام الأعظم "أبو حنيفة" رضي الله عنه حول هذا الشأن بقوله : ( من قال لا اعرف اللّه في السماء هو أم في الأرض هو، فقد كفر لان هذا يوهم أن للّه مكانا ومن توهم أن للّه مكانا فهو مشبه )، المصدر السابق ..
ويقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى : ( استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر )، نفس المصدر ..
ولكن يأتي هنا السؤال، لما مال هذا العالم الرباني المهدي بهدي الله، لتفويض الصفات وفق نهج الحنابلة الأصوليين الأشاعرة المفوضة ..
والسبب أنه نهج السلف الصالح خير الأنام والبرية هو نهج مجرب النتائج الإيجابية، ولأن بحث التأويل يضعف همة الإيمان ويزعزع ميزان التقوى ويخل بالورع ..
يقول الإمام حجة الإسلام الغزالي وإمام الأشاعرة المؤولين رحمه الله تعالى : ( اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف " أعني مذهب الصحابة والتابعين " وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه فأقول: حقيقة مذهب السلف " وهو الحق عندنا" أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه سبعة أمور: التقديس والتصديق، ثم الاعتراف بالعجز، ثم السكوت، ثم الإمساك، ثم الكف، ثم التسليم لأهل المعرفة.
أما التقديس فأعني به تنزيه الرب سبحانه وتعالى عن الجسمية وتوابعها..
وأما التصديق فهو الإيمان بما قاله صلى الله عليه وسلم، وأن ما ذكره حق، وهو فيما قاله صادق، وأنه حق على الوجه الذي قاله وأراده. وأما الاعتراف بالعجز فهو أن يقر بأن مراده ليس على قدر طاقته، وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته ..
وأما السكوت فأن لا يسأل عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه، وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر. وأما الإمساك فأن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة والنقصان منه والجمع والتفريق، بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف. وأما الكف فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكر فيه. وأما التسليم لأهله فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على الأنبياء أو على الصديقين والأولياء ..