جهاد العائلة القادرية البودشيشية في شرق المغرب
[
من جهة النسبة فإن الطريقة تلتقي روحيا عند الشيخ عبد القادر الجيلاني الحسني بسنده الى مولانا رسول الله [ص] ، و سلسلة هذه الطريقة نسبا ونسبة شجرتها موجودة عند الشيخ سيدي حمزة، و هي مسرودة ومدونة في الجزء الخامس من معلمة المغرب لمن أراد الإطلاع عليها، و من هنا فالطريقة قادرية نسبا ونسبة، و أما لقب بودشيش فليس سوى نسبة لأحد الأجدادا القادريين لقب به عرضا، و ألصق بالخلق غرضا، لحسابات وخلفيات ذاتية من بعض الجهات كما فهمته من كلام شيخي، و إلا فالأصل الأعلى الذي تنتهي إليه الطريقة كنية ولقبا، و نسبة و نسبا: هو القادري الحسني (العلوي، الفاطمي) المحمدي.
و فيما يخص التاريخ المختصر و القريب لسلالة الشجرة القادرية البودشيشية في مجال الجهاد و المجاهدة المؤدية إلى الولاية و الصلاح، فإن الشيخ سيدي المختار بن محيي الدين بن المختار لا تخفى أخباره وأحواله على أهل شرق المغرب و خاصة في منطقة بني يزناسن، بركان ووجدة و أنجاد . . .كما أنه لا تزال صورة اعتقاله من طرف المستعمر الفرنسي ماثلة في بيوت أحفاده و مسجلة في مدونات المؤرخين للمنطقة باللغتين العربية و الفرنسية، وتمثل شهادة حية و ناطقة عن بطولات هذا الرجل و مواقفه الوطنية عمليا و ليس مجرد شعارات و ادعاءات.
و لقد قرأت في بعض المطبوعات باللغة الفرنسية الخاصة بالتأريخ للمنطقة و بصورة عابرة أن اعتقال السيد المختار المتوفى سنة 1914 م لم يستسلم إلا بعد أن عمد المستعمر إلى حرق ممتلكاته و إتلاف أمتعته و إهلاك ماشيته. ويظهر الشيخ سيدي المختار في الصورة و هو جالسا القرفصاء وبجانبه فرسه و على مقربة منه أحد الجنود الفرنسيين و إلى الجانب الآخر من واد قد يسمى "عين مرجية" بجبل أغبال أحد جبال بني يزناسن، تبدو ملامح طابور من الجنود الفرنسيين يراقبون اعتقاله، و ذلك في انتظار قدوم الجينرال اليوطي، على مقربة من خوانق أغبال.
و لقد كان من بين أسباب أسره تخلي بعض أهالي المنطقة عن مساندته، و ربما خذلوه بأسلوب أو بآخر، مما كان أسره عاملا حاسما في القضاء على مقاومة التدخل الفرنسي في هذه الجهات، و إلا فكما يحكي عنه ثبوتا، أنه لم يوقف جهاده و توظيف ماله من عتاد، رغم أن هدنة كانت قد تمت بين السلطان عبد العزيز و القائد الاستعماري من جهة الشرق آنذاك إلا بعد أن توصل بالأمر السلطاني مباشرة و بخط مكتوب، لأنه كان لا يهادن المستعمر الغازي، و لا يعترف مواطنة سوى بالسلطة الشرعية و الممثلة حينئذ من طرف السلطان عبد العزيز.
و عند هذه الصور الدقيقة التاريخية تنبغي الإشارة كرد على بعض المموهين حينما ينعتون الطرق الصوفية جملة بالموالاة للاستعمار إلى أنهم يعمدون الى أسلوب ذاتي وهمي مبتذل من نمط: النقطة السوداء في اللبن الأبيض، بحيث أن تلك النقطة حينما تسقط في اللبن الأبيض تصرف بعض المرضى نفسيا و فكريا عن تناوله فيفوتون بذلك على
همنفسهم منافعه رغم أن
م محتاجون إليه غذاء و دواء، و ذلك لأنهم يعانون من انعكاسات شرطية و همية لا غير.
فالطريقة القادرية البودشيشية لم توقف مقاومتها للمستعمر سواء قبل الحماية أو عندها، و قد تنوعت بتنوع الظروف و مقتضى الجهاد و حال البلاد، كما أنه ينبغي التمييز جيدا لغة و مضمونا بين مفهوم الموالاة والمداراة، و كذا بين العمالة و المعاملة. إذ الموالاة و العمالة تعني التواطؤ مع المستعمر ضدا على المصلحة الوطنية و هذا منفي قطعا عن الزاوية القادرية البودشيشية، طريقة وأفرادا، أما المداراة و المعاملة فهو جهاد الحكماء و المخلصين من الوطنيين في درء شر المستعمر و تفادي بطشه وإقباره لأية نواة جهادية تتخذ لها مركزا وزاوية مستقرة تلجأ إليها و خاصة في الحالة التي يحكم فيها العدو قبضته على البلاد، و يصبح مراقبا مباشرة للمؤسسات الدينية و الوطنية. و من هنا فتكون مقاومة غلبته المرحلية حينئذ بالحيلة و التضليل عند مطاردته للمجاهدين، و تحين الفرص للانقضاض عليه في حالة ضعفه أو غفلته، و هكذا كان حال الزاوية كمؤسسة بارزة مقرا و بناية، جهاد في السر و مراوغة في العلن، و دون الإخلال أو المس بالأصول و المبادئ الإسلامية و الوطنية، أما كأفراد فكان الجهاد المؤكد حركة بالسلاح و الانخراط في صف المقاومة الوطنية العامة.
و من هنا فالطريقة القادرية البودشيشية تبقى هي اللبن الأبيض الذي لم تنزل عليه نقطة سوداء سواء في الماضي أو الحاضر مهما حاول الإساءة إليها بعض المشبوهين من الغوغاء أو ذوي الخلفيات السوداء، لأنها كانت و ما زالت معبرة عن مقاومتها و وطنيتها بالصورة و الحركة وبالعمل و البركة، كما يحكى عن الشيخ سيدي المختار في جهاده و سلوكه كرامات تدخل في حكم الولاية والجهاد الأكبر و هو الذي أكسبه توقيرا و احتراما كبيرا لدى أهل منطقة بركان وضواحيها، و هي كرامات كانت ناتجة عن خصال الكرم و السخاء الكبير، الذي تميز به الشيخ المختار، و الذي كان فيه صلاح كثير من الناس على يديه.
2 ) إن هذه الروح الجهادية و الكرم بشقيه المادي و المعنوي سوف لن يقتصر على السيد المختار بن محيي الدين، بل إنها قد سبقت في أجداده وامتدت الى أحفاده و ما زالت . .
فسيكون شيخنا سيدي حمزة بن العباس بن المختار من أبرز الممثلين للجهاد كمقاومة مسلحة و للمجاهدة كمداومة مصححة، حتى إنه قد انخرط عمليا في جيش التحرير كما صرح به نفسه. و قد تقلد لفترة وجيزة منصبا إداريا لم يكن يعترف عند مزاولة مهامه فيه سوى بالسلطة الشرعية المغربية المتمثلة في الأمر السلطاني، و كان يرفض التواطؤ أو الولاء للمستعمر بأي وجه أو مبرر. كما كان يحمي المقاومين و يتستر عليهم، بعد ذلك كان متفرغا لأعماله التعبدية و العادية بجانب والده سيدي الحاج العباس بن المختار الذي كان بدوره مجاهدا بأسلوب متميز و متناسب مع وضع البلاد و مقتضى حال الدعوة و رعاية لمصلحة الزاوية في فتوتها، بإيعاز من شيخه سيدي أبي مدين بن المنور القادري البودشيشي المتوفى سنة 1375ه - 1955 م، و هو ابن عم سيدي المختار جد شيخنا و الذي كان ورعا جدا لم يستطع ملازمة خدمته بصبر و ثبات حتى نال منه ما كان يكتنزه من معرفة و تحقيق سوى شيخنا و ابيه اللذين انتقلت إليهما الوراثة التربوية والروحية على استحقاق و جدارة، و تكامل بين التربية بالحال
و المقال. فتقدم الأب لسبقه الزمني، و تبعه الإبن بتصديقين معا: تصديق لشيخه وتصديق لأبيه.فكانت وراثته قوية جدا، لأنه نال الإشارة بمراقي السلوك من شيخين في رحلة واحدة، فظهر فضل الوراثة عنده بظاهرتين متكاملتين هما، ظاهرة الجلال و الجمال، و هو ما تحتويه في معانيها الصلاة الجمالية و هي الصلاة على النبي [صلى الله عليه و سلم] مختارة كشعار للطريقة، لأنها مسلك الكمل من الرجال وملجأ الآتين من صلحاء الأجيال "و ورث سليمان داوود".
و لسنا الآن بصدد سرد تاريخ مفصل عن الواقع الجهادي و مظاهر الولاية و الصلاح الموروثة في العائلة القادرية البودشيشية و إنما هي مجرد لمحة و مدخل عام يريد أن يزيل نسبيا بعض الأغشية عن العيون الرمدة التي لم ترد أن تسلم بصفاء السماء التي تفرعت إليها شجرتها روحيا و سلوكيا و علميا، رغم أن الشواهد ثابتة و الدار قائمة و عامرة، و السائل عنها لا ينهر!