قال تعالى : رضيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ( المائدة : 119 ) ، وهؤلاء الرجال هم الذين اتقوا الله حق تقاته واهتدوا إلى حزبه وهاموا في محبته وقد بين السادة الصوفية مقامات الرضا وأحوال الواصلين :
المقام الأول : هو رضا المتقون الذين صبروا على الفقر والبلاء وثبتوا عند مر القضاء ورضوا بقضاء الله وقدره .
قال السيد الشيخ الغوث محمد الكسنزان قدس سره : ( اعلم إن الله تعالى لا يرضى عن عبده إلا إذا رضي العبد عن ربه في جميع أحكامه وأفعاله وعندها يكون الرضا متبادلاً بين العبد والرب )(1) ، وهذا الرضا لا يتحقق إلا من خلال صدق التوكل على الله ومجاهدة النفس والهوى والطبع على يد شيخ كامل .
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي : ( رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت يا رسول الله ما حقيقة المتابعة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : هي رؤية المتبوع عند كل شيء ومع كل شيء )(2) ، وملازمة الذكر : الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ. . .( آل عمران : 191 ) ، وأداء الفرائض والإكثار من النوافل لأن المتقين في نارين هي نار الخوف من الله سبحانه ونار الشوق إلى الله سبحانه وهذا ما جعل الرضا عندهم هو سرور القلب في مر القضاء أي في النعمة والمصيبة وسبب ذلك هو حبهم كل شيء يرضي الله سبحانه وتعالى لذلك يرون أقدار الحياة خير ورحمة وينظرون إليها بعين الرضا وما نزولها بساحتهم إلا حكمة من الحق عز وجل لأنهم يتهمون أنفسهم بالتقصير بحق الله .
المقام الثاني : وهو رضا المقربون وهؤلاء هم رجال صادقون هيمنت على قلوبهم تجليات الجلال فاستوحشوا الأشياء ففروا إلى الله سبحانه : فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( الذاريات : 50 ) ، فحباهم الله برحمته ورضي عنهم وأجلسهم في مقعد صدق في حضرته .
قال الشيخ محيي الدين بن عربي في الحضرة : ( الحضرات ثلاث وهي حضرة الغيب ومدركها بالبصيرة . وحضرة الحس والشهادة وهي عالم الشهادة ومدركها البصر . وحضرة الخيال وهي من عالم الخيال وهو ظاهر المعاني في القوالب المحسوسة وهي أوسع الحضرات لأنها تجمع عالم الغيب وعالم الشهادة )(3) ،
والصديقون هم العارفون بالله سبحانه وعلومهم لدنية أي من لدن الحق عز وجل : فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ( الكهف : 65 ) .
قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في الرضا : ( سمعت عن محمد الباقر يقول تعلق القلب بالموجود شرك وبالمفقود كفر وهما خارجان عن سنته وأعجب بمن يدعي العبودية لله كيف ينازعه في مقدوراته حاشا للراضين العارفين عن ذلك )(4) ، وأهل هذا المقام في نارين هي نار الهيبة من الله لأنهم في حضرته: . . . إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء. . .( فاطر : 28 ) ، ونار الحياء وعدم الاعتراض: . . . رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران : 191 ) .
المقام الثالث : وهو رضا المحبون المهيمون الذين جذبتهم محبة الله سبحانه وانتقلوا إلى عالم الحقيقة وغادروا عالم الوهم ورد في الحديث الشريف : الناس نيام حتى إذا ماتوا انتبهوا (5) ، والمقصود بالموت الموت المعنوي ورد في الحديث الشريف أيضا : موتوا قبل أن تموتوا (6) ، لذلك أطلق الصوفية على هؤلاء الرجال صفة الأبدال .
قال السيد الشيخ الغوث عبد القادر الكيلاني قدس سره : ( لا يصير البدل بدلاً حتى تصير أفعال الخلق على ظهره والرب يحمل عنه لأنه بين يديه لا يبرح ) ، فظاهر الحمل عليه وباطنه على يدي رحمته(7) .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال . قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانتهم من الله . قالوا يا رسول الله أفتخبرنا من هم ؟ قال : هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور ولا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ الآية : أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( يونس : 62 ) ،وقال أحدهم في الحب :
باتتْ ِعداكَ كما أبيتُ ولقى حَسودُكَ ما لقيتُ
يا من شقيتُ بحبهِ صل لا شقيت فقد شقيتُ
كُنْ كيفَ شِئْتَ فإنَّني أرْعَى المودةَ ما بقيتُُ
لا خنتُ عهدكَ ما حييتُ وإن هجرتَ وإن جفيتُ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
______________________